الأربعاء، 20 سبتمبر 2017

الأميرة العاشقة .. ( قصة قصيرة ) .. ( الجزء الأخير ) ... بقلم الأديب / حسن عصام الدين طلبة

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص أو أكثر‏‏

الأميرة العاشقة .. ( قصة قصيرة ) .. ( الجزء الأخير )
امتدت اللقاءات الحميمة بين الأميرة مع الحبيب ابن زيدون مطمئنين للأيام والمستقبل .. وامضيا ليالى العمر معاً تناجيه بالحب والعشق ويناجيها ، ويلثم كلاهما من الشفاه رحيق هذا العشق فيسكرهما فتتخدر القلوب والجوارح .. وفى سكرة الحب خطت أنامل المحب أبياتاً تصور هذه اللحظات الحميمة فأنشد قائلاً :
فرشفت الرّضاب أعذب رشفٍ، *** و هصرت القضيب ألطف هصرِ
و نعمنا بلفّ جسم بجسمٍ ، *** للتّصافي و قرع ثغر بثغرِ
وبعزة الشباب وغروره ، ونشوة العاشقين الواثقة بالمحبوب ، تنسى العقول تقلب الأيام وغدر الليالى .. وفى حديث ودى جمعهما فى إحدى الأمسيات الجميلة قرأت الأميرة على حبيبها بيتاً من الشعر صاغته فى حبه فقالت : سقى الله أرضا قد غدت لك منزلاً بكل سكوب هاطل الوبل مغدق ..... وعلى سجيته ، أخذ ابن زيدون يشرح لولادة وينقد بوعى الشاعر العارف بأصول الشعر ومعانى الألفاظ أن هذا البيت من الشعر أشبه بالدعاء على المحبوب من الدعاء له ، فاصطدمت شاعرية ولادة المتضخمة ، بذات ابن زيدون الناقدة ، وتغير لون وجهها ،واستشعرتها إهانة لنفسها وأَسرتها فى صدرها .... ثم راجعت نفسها ، وغفر له قلبها ، وإن لم تغفره له نفسها المتقلبة النرجسية .. وقررت فى نفسها أن تذيقه من عذاب الحب يوماً .. فتلك هى ساديتها في الحب ، تلذذ بعذاب المحب ، وتتمتع برؤيةِ احتراقه !
وقفت الأميرة أمام مرآتها تداعب خصلات شعرها الكستنائى المنساب على كتفيها ، وتلف كتفيها يميناً تارة ويسارا أخرى ، والجوارى من خلفها يطيبنها بأعتق العطر وأجمله ، ثم غادرت إلى حيث متكئها الخاص بالردهة الواسعة الملحقة بحديقة القصر ، وقد انتشرت الشجيرات الكثيفة الأوراق بظلالها الجميلة على جنبات الردهة ، وتوسطتها نافورة صغيرة ، تطاير رذاذها الخفيف مع نسمات الهواء العليلة ، وراحت تحادثهن عن حفل اليوم الصغير الذى دعى له الوزير ابن زيدون ونفر قليل من الشعراء والشاعرات ، فقد أرادت أن يحظى الجميع بمجلس هادئ رائع تغمره الألفة والود ، وراحت توصى جاريتها " عنبة " المشهورة بعذوبة صوتها ، بأن تبدع فى غنائها اليوم أكثر من أى مرة غنت فيها وأبدعت من قبل ..
وفى مجلس المساء السامر ، غنت الجارية السوداء الجميلة " عنبة " وشدت
أحبتنا إني بلغت مؤملي وساعدني *** دهري و واصلني حبي ..
وجاء ليهنيني البشير بقربه *** فأعطيته نفسي وزدت له قلبي ..
استحسن ابن زيدون كلمات الشعر والغناء وصوت الجارية فطلب منها أن تعيد وصلة الغناء مرة أخرى وذلك من دون إذن ولادة ، مخالفاً التقاليد فى تلك المجالس .. فما كان من ولادة إلا أن أحمر خديها وتجهم وجهها واستشاطت غضباً ، وانتفضت وثارت غيرتها وذهبت إلى جاريتها وعنفتها وضربتها لتغيظ ابن زيدون .. فاستشعر الحرج ووقف من مجلسه محاولا تهدأة ولادة ولكن بلا جدوى ، فآثر الانصراف ، وغادر المجلس آسفاً لما جرى دون أن يقصد .. وعن ذلك المجلس كتب يقول بعد أيام يصف تلك اللحظات بأبيات من الشعر .. فقال في ذلك : وماضربت عنبى لذنب أتت به *** ولكنها ولادة تشتهي ضربي ..
فقامت تجر الذيل عاثرة به *** وتمسح طل الدمع بالعندم الرطب ..
ثم بعد ذلك يصف إبن زيدون تأثير غضبها وموقفها وذلك حين يقول : " فبتنا على العتاب ، في غير اصطحاب ، ودم المدام مسفوك ، ومأخذ اللهو متروك .. وأما ولادة فراحت تكتب له تأنبه على ما جرى فتقول : لو كنت تنصف في الهوى مابيننا *** لم تهوى جاريتي ولم تتخير
وتركت غصنا مثمرا بجماله *** وجنحت للغصن الذي لم يثمر ..
ولقد علمت بأنني بدر السما *** لكن دهيت لشقوتي بالمشتري ..

وأراد ابن زيدون الاعتذار ولكنها تركته ولم ترد على طلب ملاقاته ، بينما تابع هو كتابة اشعارة بحسن نية محاولا إن يسترجع اللحظات الحلوة التى عاشها مع محبوبته واصفاً ما كان بينهما من لقاءات حميمة ، فكتبها وقرأها الناس وتغنوا بها .. فاشتعلت النار فى الهشيم ، فهاهو الحبيب يجاهر بحبها ويفضحها على السنة العامة ..
" أهاننى وهو ينقد شعرى فغفرتها له .. ثم أعجب بجاريتى السوداء ولم يحفظ مجلسى ، وهاهو يشهر بى .. لقد فعل الثلاثة التى سبق لى حذرته من أن يقترف إحداها .. " .. حدثتها نفسها بتلك الكلمات ، وهى تقرر هجر محبوبها تماماً عقاباً له على ما أقترفه فى حقها ، وأكبرها فتنته بالجارية ، وفضحها فى شعره بما لا يمكن احتماله ..
وهكذا انهار ذلك الحب ، ومرت أيام وأسابيع وأضحى الجفاء والهجر بديلاً عن روعة اللقاء بالمحب وأنسها ، وبينما الحبيب يمنى نفسه بأمل اللقاء كانت المحبوبة قد أوغلت فى غيها بمواصلة الهجر والانتقام والتشفى من محبوبها الهائم فى حبه لها .. وراحت تحدثها نفسها دون أن تدرى مغبة استمرارها فى عذابات الهجر التى تكتوى بها ، إلا أنها وجدت ساديتها ونرجسيتها تقودانها إلى آلام الفراق ولوعة فقد الحبيب .. " .. ما ينتابنى واستغربه منى تلك اللذةٌ التى لا يحدها الوصف ولا تصورها الألفاظ ؛ فإنني أشعر بشخصي يسمو ويعلو ويملؤني الزهو والكبرياء والجلال ، وتبلغ بي النشوة أوجها كلما شعرتُ أنني بسطت سيطرتي عليه وعلى كل هؤلاء الرجال دونَ أن أُشبع لهم رغبة ، أو أُطفئ لهم شهوة ، فهم عبيدي يظلُّون يجرون خلفي طمعاً في أن يتذوقوا حلاوة وصالي ، بعد أن ذاقوا مرّة قسوتي وكبريائي ، فهم أتباع لي : يحدوهم الأمل في نعيمي ، فإذا بهم يدخلون جحيمي .. !! " ..
ولأن المصائب لا تأتى فرادى ، فقد وجد الواشون طريقهم للدس لدى الحاكم الجديد لقرطبة ، وأعادوا عليه ما قالوه لوالده من قبل ، وحذره زيادة المداخلات بين الوزير وحاكم أشبيلية اللدود .. وعلى الرغم من صداقتهما الوطيدة فقد انقلب الحاكم الصديق على صديقه ابن زيدون وقرر سجنه ، وعلم ابن زيدون بنية الحاكم فهرب ليلاً وترك قرطبة ، ولحق ببلاط حاكم أشبيلية ، فرحب به ، وقلده الوزارة هناك ..
لم تشفع سلطة ابن زيدون وثرائه فى أشبيلية كى ينسى جراح القلب والروح ، وكتب يبكى غربة الهجر ولوعة الحب فقال :
أيُوحِشُني الزّمانُ، وَأنْتَ أُنْسِي، * وَيُظْلِمُ لي النّهارُ وَأنتَ شَمْسي؟
وَأغرِسُ في مَحَبّتِكَ الأماني، * فأجْني الموتَ منْ ثمرَاتِ غرسِي
لَقَدْ جَازَيْتَ غَدْراً عن وَفَائي؛ * وَبِعْتَ مَوَدّتي، ظُلْماً، ببَخْسِ
ولوْ أنّ الزّمانَ أطاعَ حكْمِي * فديْتُكَ، مِنْ مكارهِهِ، بنَفسي

ومرت السنوات والمحبان لا يلتقيا فيها إلا فى الخيال والأحلام مع ذكريات الماضى الجامحة الرائعة .. وتهافت الشرفاء والعظماء طالبين وصالها وزواجها ، بينما ظلت الأميرة لا ترضى برجل أن يتزوجها ، فهى أكبر من أن تكون زوجة .. وبهذا رضت أن تكون طوال حياتها بلا رجل يؤنس وحدتها فى ظلمات الدهر ..
عاد ابن زيدون إلى إمارة قرطبة بعد انتصار مملكة أشبيلية عليها ، وضمها للمملكة .. وفى سكون الليل ذهب إلى قصر الأميرة ، ودخل إلى ردهته خافتة الأضواء ، وتجول بعيناه فى ذلك المكان الذى كان يعج بعظماء القوم وأشرافهم يحيطون بالأميرة المتوجة على عرش قلوبهم ، وتذكر الماضى ، ونعى الحاضر .. ووقف تحت سلالم الدرج ينظر لأعلى مستلهما يوم رآها لأول مرة وهى تنزل من عليائها فى سمو وشموخ .... وعاد الخادم ليقول له بعد أن طلب منه أن يلقاها " الأميرة نائمة الآن يا سيدى " ..
نظر إلى أعلى الدرج يناجيها بقلبه وروحه .. ووقفت هى خلف الساتر الخشبى وقد غرزت أصابعها فى مغازلة والستائر تخفيها ، وكأنها تتعلق به أن تخور قواها وراقبته بينما يناشدها قلبها بلقائه .. وحدثتها نفسها قائلة .. " .. ما عاد الزمان أن يجود لنا باللقاء الآن ، وقد كان قادراً على ذلك فيما مضى .. نعم أحببته ، وأتمناه .. ولم أحب أحد غيره سواه .. ولكننى أريد أن أبقى فى عينيه كما رآنى أول مرة .. أميرة القلوب .. وأما الآن فقد أخذ منى الزمان مأخذه .. فوداعاً يا حبيب القلب .. " ..
وعاشت ولادة من بعد رحيله سنين ، ولكنها أبداً لم تناساه ، وكيف تنساه وقد اختلت به فى قبره وراحت تنقش عليه أبيات تنطق بحبها الأبدى ، أبيات حكتها له ، وهو جالس يوماً إلى جوارها ، فأرادت أن تحاكى الماضى واللحظة فنقشت على قبره تقول :
أغار عليك من نفسى ومنى ** ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أنى خبأتك فى عيونى ** إلى يوم القيامة ما كفانى ....... (( انتهت )) ..

حسن عصام الدين طلبة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

{{ سجال بعنوان الهجر }} ...بين الشاعر / إيهاب طه و الشاعرة / سماح نبيل

  {{ سجال  بعنوان الهجر }}  ...بين الشاعر /  إيهاب طه  و الشاعرة /  سماح نبيل   و الذي أقيم بمجلة نبض القلوب الالكترونية مساء يو...