السبت، 15 يوليو 2017

لا زلت أتذكر اليوم الذي وطأت فيه قدماي مستشفى باريسي من أجل العلاج من المرض "الخبيث". هكذا يسمونه هنا، في البلد. حتى الأطباء يطلقون عليه -ظلما- هذا الاسم، لكنهم لا يدركون أن هناك من هم أخبث منه من البشر. استعصى علي العلاج في بلدي ورحت للبحث عنه في بلاد "النصارى". أعرف أن هؤلاء لا يميزون بين الناس وجيوبهم وألبستهم وسياراتهم وساعات أيديهم مستشفياتهم يسيرة الولوج. مستسفيات لا يخفق لها القلب خوفا وهلعا مما قد يصيبك بداخلها، ولا يلزمك قراءة المعوذتين قبل نية الذهاب إليها. لا ترهب المرضى من "خبث" المرض، لكنها تحرص على صون كرامة الأدميين بتوفير سبل العلاج.
كنت أجد خلال تلك الحصص من العلاج النفسي الجماعي، فرصة للتخلص من تراكمات هموم حملتها لسنين في صدري وظلت عالقة به. تفاجأت في البداية. وبخلفية محترسة، حاولت سلك طريق الكتمان واكتفيت بالاستماع للمرضى الآخرين وكيفية سردهم لمعاناتهم مع المرض وما يرافقه من صعوبات. بعضهم لا يكتفون بحكي معاناتهم مع العلة "الخبيثة" بل يسهبون في الحديث عن كل جوانب حياتهم. يحكون عن المرض وعن وقعه على صحتهم البدنية والنفسية وآثاره على علاقاتهم الاجتماعية التي تفتر بمجرد ما يودعون فوق أسرة المرض. يظلون وحيدين يكابدون ألم المرض والدواء الكيماوي الذي يحرق أوردتهم وينهك قواهم. وقفنت على صحة ما يقولون عندما رقدت للمرة الأولى في مصلحة للعلاج الكيماوي. الزوار قليلون. يأتون في هدوء ممل ويرحلون في هدوء أشد مللا. لا تتجاوز فترات اللقاء بين المريض والزوار، الذين يحرصون على المجيء فرادى، سوى بضع دقائق. يحملون في أيديهم باقات ورود صغيرة يلقونها على الطاولة التي تحاذي سرير المريض، يتكلمون بصوت منخفض، لدقائق معدودة، ثم ينصرفون وهم يفرجون عن ابتسامة صغيرة يرسمونها بحياء على أفواههم الصغيرة.
ذاكرتي الملعونة، وفطنة ذلك الفضولي الذي يسكنني، عادا بي إلى زمن بعيد. إلى يوم رافقت فيه والدي وقد اشتد به المرض إلى مستشفى حكومي في البلد. فكان الفرق جليا للعميان. هنالك، بمجرد ما يرقد واحد من العائلة في مستشفى ويشيع خبره بين العائلات وناس الحي، يقصدونه فرادى وجماعات محملين بأطباق الكسكس والرفيسة والموز والتفاح والياغورت والدلاح وبقاريج الشاي وأباريق القهوة. يجتمعون في غرفة المريض، التي يتقاسمها مع سبعة آخرين، يفترشون الأرضية ويتحلقون حول ما أتوا به من زاد في منظر يوحي بحفل زفاف أو عقيقة، لا ينقصه سوى "الطلبة" والفقيه. يأكلون الطعام ويحضرون الشاي فوق قناني الغاز التي يجلبونها من بيوتهم في اليوم الأول من استشفاء المريض. يدركون مسبقا أن المقام سيطول به، فيجلبون من الأغراض وأواني الطبيخ ما يلزم. يضحكون ويقهقهون ويتذاكرون ويتفاكهون. حتى إذا ما حل الليل، جمعوا أوانيهم الفارغة وهيدوراتهم وغادروا ضاربين الموعد في اليوم الموالي مخلفين وراءهم، فوق ذلك السرير المهترئ، جسدا منهكا وروحا مكلومة...

ناصري ناصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

{{ سجال بعنوان الهجر }} ...بين الشاعر / إيهاب طه و الشاعرة / سماح نبيل

  {{ سجال  بعنوان الهجر }}  ...بين الشاعر /  إيهاب طه  و الشاعرة /  سماح نبيل   و الذي أقيم بمجلة نبض القلوب الالكترونية مساء يو...