السبت، 15 يوليو 2017

استبشرت أمي بمولدي كبكر ذكر. داهمتها آلام المخاض وهي تطوع بفأسها أرضا خلاء استعدادا لموسم الحرث، بعدما عجز عن ذلك أعمامي وجدي. الرجال ينتدبون النساء للقيام بأشغال شاقة ليتفرغوا للهوهم والقعود في مجالس الشاي والكيف. كانت وحيدة حينذاك ولم تدر ما تفعل. كاد المخاض يودي بحياتها وحياتي لولا تدخل "الصالحة"، قابلة القرية، التي عرفت ببراعتها في توليد النساء والمواشي. كان مرورها صدفة جميلة كتبت لنا العيش. استلتني قطعة صغيرة من أحشائها ولوتني في قماش كانت تدثر به رأسها وقاية من أشعة الشمس الكاوية. قطعت حبلي السري بموسى حلاقة تلازمها أينما حلت، احتمالا لحدوث وضع مستعجل يفاجئ صاحبته في الخلاء، كما حدث مع أمي. طهّرت أمي من "الخلاص" ودفتنه في التراب حتى لا تعبث به أنياب الكلاب أو أيادي السحرة الماكرين في القرية. أمهلت أمي بعض الوقت قبل أن تصوب فمي بعناية ودقة نحو حلمتي ثديها كأول وصل بيننا، بعدما تقطع الحبل الذي جمعنا أشهرا تسعة. لم يدرّ ثدياها حليبا لكنها أرغمتني على مصهما وقتا طويلا. ففي ذلك فائدة، قالت القابلة.
كانت "الصالحة" أشهر قابْلات القرية، ولد على يديها نشأ كثير. يداها كريمتان لينتان تخرجان المولود بيسر وحكمة قلما يخرج بها المواليد في المستشفيات والمصحات، حتى أصبحت النساء يعزفن عن الذهاب إلى مستوصف القرية الذي ينهك كواهلهن بطلبات كثيرة لملح اليد. أما "الصالحة"، فملح يدها لا يتعدى بضع بيضات تأخذها من المرأة وتبيعها في محل البقالة الوحيد في القرية. لكن وراء كل نجاح لغط كثير ينتج عن قلوب ملآى بالشر والحسد. لقد سبب لها صيتها الذائع وسط الأهالي متاعب عديدة مع ممرض المستوصف، الذي أراد الانفراد بمهام القبالة، لكن أهل القرية أعرضوا عن خدماته وفضلوا عليها خدمات "الصالحة" تفضيلا. قالوا إنه لا حاجة لهم برجل يصول ويجول بيديه الخشنتين وسط فروج زوجاتهم وهم ما يزالون في أمس الحاجة إليها مباشرة بعد انقضاء الأربعين. إن هو استعمل تلك الجرافتين، فليكن الله في عون المرأة! قال عبد القادر"المجْواع" لرجال القرية، محرضا إياهم على عدم إحضار "حمادي الأعور"، ممرض القرية الشهير الذي عمّر فيها طويلا وطعن في قرارات تنقيله بعدما ذاق السمن والعسل الحر وزيت الزيتون الذي لا ينضب من جراته على مر السنين، لتولي أمر قبالة زوجاتهم. حتى الفقيه، "السي بوشعيب"، حرم قطعا أن يتولى رجل توليد أنثى فيكون ذلك بهتانا وإثما كبيرا!
كان الأهالي قد أطلقوا لقب "الأعور" على الممرض حمادي بعدما تفطنوا إلى عوره الذي ظل يخفيه عنهم منذ مجيئه إلى القرية. لا يرتدي نظارات طبية إلا عندما تتعذر عليه قراءة تاريخ انتهاء الصلاحية لدواء، عدا ذلك فهو يجهد نفسه في التفرس حتى لا يثير انتباه زوار المستوصف. الأهالي قالوا إنه لا يميز بين الأشكال والأجناس وبين الناس. يميز فقط بين ما يدس في جيبه من ملح اليد وما يوضع في عتبة بابه من مؤونة الزيت والقمح والتين والعسل والبيض. وعندما يعزم على وخز إبرة في ورك أحدهم، فغالبا ما يتطلب منه ذلك ساعة أو يزيد حتى يتمكن من ضبط موضعها الصحيح. يدقق طويلا في موضع الحَقن كصياد يريد تصويب طلقات نارية لطريدة ولا يريد أن تفلت منه. لكنه لا يسلم من الهفوات عندما يخطئ مكان التصويب، فعوض أن تقع الإبرة في الورك، تصيب المؤخرة!
ناصر ناصري..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

{{ سجال بعنوان الهجر }} ...بين الشاعر / إيهاب طه و الشاعرة / سماح نبيل

  {{ سجال  بعنوان الهجر }}  ...بين الشاعر /  إيهاب طه  و الشاعرة /  سماح نبيل   و الذي أقيم بمجلة نبض القلوب الالكترونية مساء يو...